الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة الدخان: الآيات 1- 8]: {حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هو السميع الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هو يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائكم الأولين (8)}.الواو في {وَالْكِتابِ} واو القسم، إن جعلت حم تعديدا للحروف أواسما للسورة، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف وواوالعطف إن كانت حم مقسما بها.وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ} جواب القسم، والكتاب المبين القرآن. والليلة المباركة: ليلة القدر. وقيل: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصكّ، وليلة الرحمة وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة. وقيل في تسميتها: ليلة البراءة. والصكّ: أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك اللّه عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.وقيل: هي مختصة بخمس خصال: تفريق كل أمر حكيم وفضيلة العبادة فيها: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل اللّه إليه مائة ملك: ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنون من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا. وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان». ونزول الرحمة: قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ اللّه يرحم أمّتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب» وحصو ل المغفرة: قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ اللّه تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أوساحر أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين، أو مصرّ على الزنا» وما أعطى فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تمام الشفاعة، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته، فأعطى الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع، إلا من شرد عن اللّه شراد البعير. ومن عادة اللّه في هذه الليلة: أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة، والقول الأكثر: أنّ المراد بالليلة المباركة: ليلة القدر، لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ولمطابقة قوله: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} لقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} وليلة القدر في أكثر الأق أو يل في شهر رمضان. فإن قلت: ما معي إنزال القرآن في هذه الليلة؟ قلت: قالوا أنزل جملة واحدة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأمر السفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر وكان جبريل عليه السلام ينزله على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نجوما نجوما. فإن قلت: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان. فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} كأنه قيل: أنزلناه، لأن من شأننا الأنذار والتحذير من العقاب، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. والمباركة: الكثيرة الخير لما يتيح اللّه فيها من الأمور التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم، ولولم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة. ومعنى {يُفْرَقُ} يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم منها إلى الآخرى القابلة.وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخه الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم: يعطى كل عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ: {يُفْرَقُ} بالتشديد. و{يُفْرَقُ} كل على بنائه للفاعل ونصب كل، والفارق: اللّه عزّ وجلّ، وقرأ زيد بن على رضي اللّه عنه: نفرق، بالنون، كل أمر حكيم:كل شأن ذي حكمة، أي: مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازى، لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا} نصب على الاختصاص. جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاء علمنا وتدبيرنا.ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهى، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق، لأن معنى الأمر والفرقان واحد، من حيث أنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه. أو يكون حالا من أحد الضميرين في أنزلناه: إما من ضمير الفاعل، أي: أنزلناه امرين أمرا. أو من ضمير المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل فإن قلت: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون بدلا من قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} مفعولا له، على معنى: إنا أنزلنا القرآن، لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، وأن يكون تعليلا ليفرق. أولقوله: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا} ورحمة: مفعولا به، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله تعالى: {وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أي يفصل في هذه الليلة كل أمر. أوتصدر الأوامر من عندنا، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا، لأن الغرض في تكليف العباد تعريضهم للمنافع. والأصل: إنا كنا مرسلين رحمة منا، فوضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، وفي قراءة زيد بن علي: {أمر من عندنا}، على: هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن: {رحمة من ربك} على: تلك رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنها مفعول له {إِنَّهُ هو السميع الْعَلِيمُ} وما بعده تحقيق لربوبيته، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه. وقرئ: {رب السماوات} {ربكم ورب آبائكم}، بالجر بدلا من {ربك}.فإن قلت: ما معنى الشرط الذي هو قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}؟ قلت: كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا، فقيل لهم: إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان، كما تقول: إنّ هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته..[سورة الدخان: الآيات 9- 12]: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)}.ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} وأن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن، ولا عن جدّ وحقيقة: بل قول مخلوط بهزء ولعب {يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ} مفعول به مرتقب. يقال: رقبته وارتقبته. نحو: نظرته وانتظرته. واختلف في الدخان، فعن على بن أبى طالب رضي اللّه عنه وبه أخذ الحسن: أنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ، ويعترى المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص. وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أول الآيات: الدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر» قال حذيفة: يا رسول اللّه، وما الدخان؟ فتلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الآية وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة. أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمّة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره». وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه: خمس قد مضت: الروم، والدخان، والقمر، والبطشة.واللزام. ويروى أنه قيل لابن مسعود: إن قاصا عند أبواب كندة يقول: إنه دخان يأتى يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق، فقال: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: اللّه أعلم، فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه: اللّه أعلم، ثم قال: ألا وسأحدّثكم أنّ قريشا لما استعصت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أَبُو سُفْيَان ونفر معه وناشدوه اللّه والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم بِدُخانٍ مُبِينٍ ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان يَغْشَى النَّاسَ يشملهم ويلبسهم، وهو في محل الجر صفة لدخان.و {هذا عَذابٌ} إلى قوله: {مُؤْمِنُونَ} منصوب المحل بفعل مضمر، وهو: يقولون. ويقولون:منصوب على الحال، أي: قائلين ذلك. {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب..[سورة الدخان: الآيات 13- 16]: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رسول مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَولوا عَنْهُ وَقالوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}.{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى} كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب وَقَدْ جاءَهُمْ ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا وتولوا عنه، وبهتوه بأن عداسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون، ثم قال: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ} أي ريثما نكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من التضرع والابتهال. فإن قلت: كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا}؟ قلت: إذا أتت السماء بالدخان تضور المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوّثوا وقالوا {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} منيبون، فيكشفه اللّه عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدون لا يتمهلون، ثم قال: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى} يريد يوم القيامة، كقوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى}.{إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي ننتقم منهم في ذلك اليوم. فإن قلت: بم انتصب يوم نبطش؟ قلت: بما دل عليه إِنَّا مُنْتَقِمُونَ وهو ننتقم.و لا يصح أن ينتصب بمنتقمون، لأن (إن) تحجب عن ذلك. وقرئ: {نبطش}، بضم الطاء.وقرأ الحسن: {نبطش} بضم النون، كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى.أو يجعل البطشة الكبرى باطشة بهم. وقيل {الْبَطْشَةَ الْكُبْرى}: يوم بدر..[سورة الدخان: الآيات 17- 21]: {ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رسول كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رسول أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)}.وقرئ: {ولقد فتنا}، بالتشديد للتأكيد. أو لوقوعه على القوم. ومعنى الفتنة: أنه أمهلهم ووسع عليهم في الرزق، فكان ذلك سببا في ارتكابهم المعاصي واقترافهم الاثام. أوابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان. أوسلبهم ملكهم وأغرقهم {كَرِيمٌ} على اللّه وعلى عباده المؤمنين. أوكريم في نفسه، لأن اللّه لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ} هي أن المفسرة، لأن مجيء الرسول من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه. أو المخففة من الثقيلة ومعناه: وجاءهم بأن الشأن والحديث {أدّوا إلىّ} و{عِبادَ اللَّهِ} مفعول به وهم بنو إسرائيل، يقول: أدوهم إلىّ وأرسلوهم معى، كقوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ولا تُعَذِّبْهُمْ} ويجوز أن يكون نداء لهم على: أدوا إلىّ يا عباد اللّه ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبو ل دعوتي واتباع سبيلي، وعلل ذلك بأنه {رسول أَمِينٌ} غير ظنين قد ائتمنه اللّه على وحيه ورسالته {وَأَنْ لا تَعْلُوا} أن هذه مثل الأولى في وجهيها، أي: لا تستكبروا {عَلَى اللَّهِ} بالاستهانة برسوله ووحيه. أولا تستكبروا على نبىّ اللّه {بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} بحجة واضحة {أَنْ تَرْجُمُونِ} أن تقتلون. وقرئ: (عت)، بالإدغام. ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه به من الرجم والقتل {فَاعْتَزِلُونِ} يريد: إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمنوا، فتنحوا عنى واقطعوا أسباب الوصلة عنى، أي: فخلوني كفافا لا لي ولا علىّ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ذلك..[سورة الدخان: الآيات 22- 24]: {فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهوا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)}.{أَنَّ هؤُلاءِ} بأن هؤلاء، أي: دعا ربه بذلك. قيل: كان دعاؤه: اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم: وقيل هو قوله: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وإنما ذكر اللّه تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك، وهو كونهم مجرمين. وقرئ: {إنّ هؤلاء}، بالكسر على إضمار القول، أي: فدعا ربه فقال: إن هؤلاء {فَأَسْرِ} قرئ بقطع الهمزة من أسرى، ووصلها من سرى.وفيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء، فقال: أسر بعبادي. وأن يكون جواب شرط محذوف، كأنه قيل: قال إن كان الأمر كما تقول فأسر {بِعِبادِي} يعنى: فأسر ببني إسرائيل، فقد دبر اللّه أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده، فينجى المتقدمين ويغرق التابعين. الرهو فيه وجهان:أحدهما: أنه الساكن. قال الأعشى:أي مشيئا ساكنا على هينة. أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق، كما ضربه فانفلق، فأمر بأن يتركه ساكنا على هيئته، قارّا على حاله: من انتصاب الماء، وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط، فإذا حصلوا فيه أطبقه اللّه عليهم.والثاني: أن الرهوالفجوة الواسعة. وعن بعض العرب: أنه رأى جملا فالجا فقال: سبحان اللّه، رهوبين سنامين، أي: اتركه مفتوحا على حاله منفرجا {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} وقرئ بالفتح، بمعنى: لأنهم. .[سورة الدخان: الآيات 25- 27]: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27)}.والمقام الكريم: ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة. وقيل: المنابر. والنعمة- بالفتح- من التنعم، وبالكسر- من الأنعام. وقرئ: {فاكهين} و{فكهين}..[سورة الدخان: الآيات 28- 29]: {كَذلِكَ وأورثناها قَوْمًا آخرين (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)}.{كَذلِكَ} الكاف منصوبة على معنى: مثل ذلك الآخراج أخرجناهم منها {وأورثناها} أو في موضع الرفع على الأمر كذلك {قَوْمًا آخرين} ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل: كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم اللّه على أيديهم، وأو رثهم ملكهم وديارهم. إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس. وفي حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» وقال جرير:
|